بيد أن الحرية في قواميسنا العتيقة الضاربة في أغوار الزمن ، و ان هي غير مدونة في صحف مرصوفة أو مجسمة على رفوف المكتبات ، او مكدسة داخل مغارات السراديب ، مثلما يفعل الناس ، و ذلك راجع لأسباب غير ذات عذر ، بالنظر الى كيفية تفاعل أسلافنا و تعاطيهم معها عبرالتاريخ . فالحرية بالنسبة الينا ليست مجرد كلام يقال أو قرقعة طنين يسمع ، مثلما يوحي بعض ، أو يوحى الى بعض من أهلينا "ممن جهل و صبأ" عبر مراحل حياتنا ، لاعتبارات خسيسة سخيفة و تحت غطاءات و مسميات شتى . كانت ولا تزال تقتضيها وتمليها عليهم ظرفيات ساذجة ، واهية ، و مفتعلة على الدوام ، يتذرع بها هؤلاء السلبيون من أبناء جلدتنا (بالرغم من أنهم ملفوظون) اجتماعيا عبر كل حقبة من تاريخنا ، و فوق كل بقعة من أرضنا ، ليعتنقوا بذلك مكرا وخداعا ، سفاهات لا منبع لها و لا مؤدى ، لم تكن تمت بصلة الى انيتنا لا من بعيد ولا من قريب ، لا في شكلها ولا في المضمون ، لم تعكس يوما واقع حالها ، ولا عبرت أو أعربت ذات مرة عن فصيح مآلها أو مأربها . ثم يرتكبوا جراء معتنقاتهم تلك ، الموسومة بكل أنواع الرذيلة بما فيها تلك التي يتبرأ منها أبليس ، جرائم و حماقات لا ترد و لا تغتفر ، في صلب كبانهم ويرهنوا مصائر من بعدعم . كانت هذه التصرفات و لا تزال السبب الرئيسي و المباشر في انتكاساتنا لعدة محطات عبر مسارنا الطويل الحافل بالمفارقات .
هذه السلوكات مظهريا لا تعدو أن تكون مجرد شطحات ثملى دنيئة ، لا تصون عرضا ، لا تتقي شبهة و لا تذر شيما . لا تحفظ ماضيا ، لا تشرف حاضرا و لا تضمن مستقبلا . لا تدل تائها ، لا تعتق عبدا و لا تبني سيدا . أبطال هذه الأدوار لمن حواليهم عبر تاريخنا يبدون فقاقيع جوفاء لا رائحة لها و لا أثر ، لا منبت لها و لا مستقر، لا يعتد بها ولا تؤخذ في الحسبان ، فالحكم بزوالها حال ، آت ، لا مفر ، هم على شنيعهم المستدام هذا ، و الأحرار بتصديمهم لهم دوما بالمرصاد . فظلت لذلك حلقة الزمان تدور علينا والحال هذه ، الى أن أضحينا "كيانا يصارع الذات على الدوام" .
ان الطاقة التدميرية المتولدة عند هؤلاء ، و قدرتهم الازعاجية الدينامية المتجددة ، و توجهاتهمم ذات المنحى العكسي باستمرار ، ليست لتهمل ، و الدليل : يكفي أنها حالت غيرما مرة دوننا و الرسوخ الحضاري ، و اجتثت وتدنا من على ركح الرقي الاتنساني ، كما لطخت و شوهت بصماتنا على صفحات التاريخ البشري لعدة محطات . ليس ذلك فحسب و انما ، ضربت وهددت وجودنا السيادي في صميمه لعدة محاولات ، و لا تزال حملاتهم تتكرر الى لحظتتا، و لسوف تظل ان لم نراجع المسالك ونقوم المسار.
ان الحرية عندنا أرضية لكل ابداع و منطلق مشروط لكل اقلاع .
ان الحرية كل الحرية أن يشعر المرء بالرضى و الاستقرار الداخلي عن كل تصرف يقوم به .
ان الحرية كل الحرية أن يرتاح المرء لكل ما يصدر عنه من دوافع و رغبات و حتى اختلاجات ، ثم يجد لها فيه امكانا للترجمة في ردود أفعال واستجابات تنسجم و مجرى الحياة .
ان الحرية كل الحرية أن يعتقد المرء بحتمية التفاعل لاثبات الذات و ضرورة استثمارها في اسهام لا منقطع .
ان الحرية كل الحرية أن يعي المرء و يتقن (الكيفيات ) التي تفسح المجالات حين تنسد الآفاق ، و تخول بالمضي حين تتعدد العقبات .
تلكم ، هي المستلزمات القاعدية لقيام السيادة واستمراريتها ، كلها مرتبطة بالحرية ، متعلقة بها و فقط بها ، و من دون شيء سواها . و نحن "الأحرار" بالطبع و الممارسة ، فلا يمكن أن نكون الا "أسيادا" . و ما دامت السيادة عندنا أمرا مقضيا ، فلا خوف عليبنا و لا جزع ، و لسوف ننبعث من رفاتنا و ان أبت الظروف . ذلك على الأقل ما أكده تاريخنا ، البعيد منه و القريب . فلا داعي لطرح سؤال : (السيادة ، لماذا ؟) اطلاقا .
( النضج المواطني - دولة المؤسسات - السيادة ) كيف ؟
بعدما أطلقنا العنان للفكر و رخصنا له بالحل و الترحال بين مطارح التأمل والتركيز، لمداعبة آفاق التأسيس و التنظير ، ثم فسحنا المجال للألفاظ و العبارات لتصول وتجول بين مسارح الفصاحة و الكلم بدغدغة المأثور من بديع الوصف و جميله حينما كنا نتفاعل مع السؤالين ( ما معنى - لماذا ) ، كان الغرض من ذلك محاولة نقريب خطاب ، لطالما جانبه (القراء) من أبناء هذا الوطن و تحبيبه اليهم ، لعل و عسى ......... ، علما أنهم لا يمثلون الا الأقلية القليلة من التعداد العام للسكان ، ضف الى ذلك فهم معزولون محشورون و مطوقون من كل جانب . فمن جهة الرعاة : عصي غليظة قاسية شتى فوق رؤوسهم تقرع بلا هوادة و لا كلل ، ان ذلك لمن شيم الحاكمين .
و من جانب الرعية : قصور ، تقصير وانسداد ، بحيث لا نفوذ ، لا نفاذ و لا أمل ، خرسانة كاتمة مصفحة مضروبة على ألبابهم ، فمن أين ، وكيف السبيل الى اختراقها و لو بشعاع "الليزر" آخر منجزات العلم و التكنولوجيا ، فما دهاك يا لكلمات..........! ؟ . ما جعل من (مثقفينا المساكين) منذ القدم ، ريحا بلا شذى ، فراقد بلا أنوار، و قادة بلا جيوش .
في أجواء كتلك ، أيعقل أن يكون لهم أثر أو تأثير في مجريات الأحداث ، مثلما تقتضيه الحياة الطبيعية لدى سائر الأجناس البشرية ؟ لا عجب في شذوذ الوضع عندنا على كل حال ، لأن الأغلبية الساحقة ، المارقة والماحقة من هذا المجتمع الغريب (العلويون منهم والسفليون ، الهجاؤون منهم و الأميون ، المرغوب فيهم والمغضوب عليهم) الكل يتضايق و يتحرج من التعاطي و الاحتكاك بالمعرفة و الحقيقة ، و على عكس ما يتوافق و الطبيعة البشرية
المتوازنة ، تجد هؤلاء يتفادون في تملص و خبث ونفاق مجرد مجانبة احديهما ، فما بالك اذا اقتضى منهم الأمر (يوما) مجابهتهما معا (معرفة الحقيقة)! .
حسب المعطيات و النتائج نحن شعب ، هش ، طيع، رخو ، مهلهل ، مترهل و سريع الانكسار ، علينا أن نحذر و نتجنب كل ما من شأنه أن يوقض الحس فينا أو يشغل (الراس) ، لذلك فالأجدر بنا و الأنفع لنا أن نبقى على ما نحن عليه من ركود استسلامي و غيبوبة انعدامية حتى نحافظ على سلامة (الراس) مثلما دأبنا ، لئلا نستفز في دواخلنا المكنونات و نثيير حوالينا الشياطين و سائر الكائنات .
هذه الوصفة السحرية التي ضمنت لنا كياننا قد تبرك بها علينا أول الوافدين و لا يزال سريان مفعولها ، من قدرة الشعوذة الى يومنا ، دون حاجة الى تحيين ، رغم أن الوقت ماض متجدد و متغير . هكذا نحن ، ولسوف نواصل على نفس المنوال ، حتى ترضى عنا السماء و ننال حمد الغرباء . هكذا أملي علينا ، هكذا أوحي الينا و هكذا قيل لنا منذ زمن الأولين : أن العقل للحياة مبعث قلق و صداع فتجنبوه لعلكم تهدأون . لقد قالها كل من عادنا (لا أقول عادانا) من الوافدين ! كيف لا نصدق و لا زيارة الا للعليل ؟ لقد أدوا جميعا واجبهم نحونا (الله يكثر خيرهم) . ربما لتعددهم و تنوع أغراضهم سموا أرضنا (ج زاير) من يعرف ؟! المهم أنه من كثرة الزيارات ، ارتقت العلاقة بيننا وبينهم الى درجة حب وعشق مستدام ، فأصبحت مع مرور الزمن والتكرار ضرورة ترابطية و تلازمية حيوية لا يمكن الاستغناء عنها ! ما ترددنا يوما و لا خجلنا من التعلق بالغير بتفخيمه و تعظيمه و تمجيده في هيام و مهانة و استكانة تثير فيه غريزة استباحة حلنا ، وقد حصل لهم ذلك فعلا وتجرعنا على أيديهم العلقم غيرما مرة ، و عوض أن نعتبر ثم نرتدع ، لا زلنا نتبجح بهذا السلوك و ننقله الى الأجيال بكل أمانة .
من فرط ما تلقينا على أيدي الغزاة (الزائرين) من طمس و مسخ و بخس ، تنصل فينا اللبيب لذاته ، فما أدراك بالعوام ؟ ألسنا الى لحظتنا نرمي بالجهل (جورا) كل من لم يخطط يمنة أو يسرة ، بينما مكمن العلم في لب أهله ؟
ألم نزدر فينا كل أصيل لفظ سنة المشرقين ورفض مذهب المغربين ، بينما لا دوام الا للأعراق ؟ لمذا لم نرض الى لحظتنا بكيفما نحن و نصرف عملتنا الصرفة كيفما كانت دون مساحيق ولا واردات ، بينما الرقي رقي بالذات ، و الاستثمار استثمار لها ، و لا وجود في الحقيقة الا بها و لها ؟ . كل شيء هنا مغشوش ، بما في ذلك الحقيقة نفسها ! افتروا عليها وزوروا حتى أضحى البعض منا ، لنقل جلنا ، ينفر منها تجاهلا أو يعدل عنها تناسيا ليغوص في السراب بينما الحق بالحق لا بد ان يقال! أليست هذه فينا علة معلول بها حتي (النخبة) التي من دورها و الواجب عليها الحفاظ على ما تبقى من الفطنة والنخوة و الأمل لتعيد الينا الروح و تبعث فينا الرمق ، عسى أن تتقبل منا الحياة ؟ أما حالنا و الحال هذه ، فيا أسفاه ، نخشى انه الفناء بالتمام .
هذه حالنا و نحن عليها منذ اوكلنا أمرنا للزائرين ألم تسد (قرطاج) باسم الفينيق ؟ ألم تستأسد بنا (روما) و جعلت من أرضنا مطمورة لامبراطوريتها ؟ ألم نفتح الأندلس برجالنا ، ثم استحلها لهم أبناء يعرب واغتصبها من بين أيدينا بعد ذلك بنو أمية قهرا و عنوة ؟ ثم ماذا بعد ذلك ؟ ألسنا الى يومنا نتقاذف ، نتنافر، و نتبادل كل الويلات في تلاطم وتناطح و تناحر مستهلك للطاقات على الدوام ؟ لم لم نسترشد ونعرف يوما مقاما للحياة ؟
مثل تلك التصرفات ، ومثل تلك الاعتقادات ، لم تثمر يوما ولم تمنح مجتمعنا مقومات تصنع فيه من يمشي به قدما ، بل بالعكس أوجد بين أوساطنا كما هائلا من البلداء الهامدين ، الذين يشغلون الحيز بلا معنى ، و ينتسبون الى الأحياء بينما هم أموات ، حضورهم في الحياة أو غيابهم سواء ، ما أضيفت بهم عليها قيمة على مر العصور، ما جعلنا دائما تحت راية الآخر و تحت وطأته ، دوما معلبون ، مغلفون ، متسترون تحت أردية الغير! من أنتم ؟ أين كنتم ، أين بصمتكم ، متى وجدتم و لماذا....؟ أنتم سوى عبء عقم على الحياة خصب مرعاها ، و من تثاقلت جراهم خطى ممشاها ، و من أحاد عن سواء السبيل مجراها ، بفضلكم ها نحنذا في مد و جزر لا قدمنا خطوة و لا أخرناها منذ أزلنا ، لم نصنع شيئا ، كل ما فينا أننا اختصاصيون في اقامة الزوابع البينية تارة هنا وتارة أخرى هناك ، غالبا ما كانت تفضي الى حروب استنزاف وتدمير للذات ، و هل أجهل من هذا ؟ تصوروا لو أننا احتكمنا الى العقل يوما ، مع ما لدينا و ما نملك ! أليس بمقدورنا السواد و قيادة العالم ؟ الا أننا لن نفعل ، لأننا نخشى الصداع ، صداع الرأس كما أسلفت . لم عناء البحث و جهد الحقيقة ؟ لماذا نكسر (الراس) و نتعب النفس و أرضنا أرض الأربعة فصول ، ارم الحب يوما ثم دع الأمر للطبيعة حتى تقدمه لك رغيفا . لقد حبانا الله و جادت علينا الطبيعة ، حتى جبلنا (مناخنا) حسبما يبدو على التواكل ، نحن أنصار الجهد المحدود ، هذا ما فعل بنا الرخاء و المناخ المعتدل ، كل سلوكاتنا وتصرفاتنا توحي الى تحاشي المواجهة والمجابهة والتلاقي . ليس بمفهوم العراك والشجار والمبارزة طبعا و انما ، مواجهة واقعنا و مجابهة حقيقتنا و التلاقي فيما بيننا لادراك ذاتنا . علينا جميعا أن نقر في طمأنينة أن الأمر بالفعل يشغل كل بال ، ثم نصالح بين شعورهنا واللاشعور ، ليزول عنا الخوف مما نفكر، فتستتب لنا بذلك ملكة الأخذ والعطاء التي تضمن لنا و لأحفادنا الديمومة و البقاء .
لا علينا ، تعمدنا هذا الأسلوب في الكتابة حين طرح السؤالين ( ما معنى ؟ - لماذا ؟ ) ، أما الآن فان الرد على السِؤال "كيف ؟" لا يحتمل تلك العمليات التجميلية ، ان هو الا دقة و واقعية تبنى على مهارة لا تفرط في النجاعة .
1- النضج المواطني "كيف" ؟